الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
الموسوعة الفقهية / الجزء السادس
1 - الإقامة في اللّغة مصدر: أقام، وأقام بالمكان: ثبت به، وأقام الشّيء: ثبّته أو عدله، وأقام الرّجل الشّرع: أظهره، وأقام الصّلاة: أدام فعلها، وأقام للصّلاة إقامةً: نادى لها. وتطلق الإقامة في الشّرع بمعنيين: الأوّل: الثّبوت في المكان، فيكون ضدّ السّفر. الثّاني: إعلام الحاضرين المتأهّبين للصّلاة بالقيام إليها، بألفاظٍ مخصوصةٍ وصفةٍ مخصوصةٍ.
أ - إقامة المسافر 2 - يصبح المسافر مقيماً إذا دخل وطنه، أو نوى الإقامة في مكان ما بالشّروط الّتي ذكرها الفقهاء، وينقطع بذلك عنه حكم السّفر، وتنطبق عليه أحكام المقيم، كامتناع القصر في الصّلاة، وعدم جواز الفطر في رمضان. وإقامة الآفاقيّ داخل المواقيت المكانيّة، أو في الحرم تعطيه حكم المقيم داخل المواقيت أو داخل الحرم من حيث الإحرام، وطواف الوداع، والقدوم، والقران، والتّمتّع. وينظر تفصيلات ذلك في (قران - تمتّع - حجّ - إحرام). ب-إقامة المسلم في دار الحرب: 3 - إقامة المسلم في دار الحرب لا تقدح في إسلامه، إلاّ أنّه إذا كان يخشى على دينه، بحيث لا يمكنه إظهاره، تجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام، لقول اللّه تعالى: «إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم ؟ قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض اللّه واسعةً فتهاجروا فيها»، وهذا إذا كان يمكنه الهجرة ولم يكن به عجز، لمرضٍ أو إكراهٍ على الإقامة. أمّا إذا كان لا يخشى الفتنة ويتمكّن من إظهار دينه مع إقامته في دار الحرب، فإنّه يستحبّ له الهجرة إلى دار الإسلام، لتكثير المسلمين ومعونتهم، ولا تجب عليه الهجرة. وقد كان العبّاس عمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقيماً بمكّة مع إسلامه. وللفقهاء تفصيلات كثيرة في ذلك: (ر: جهاد - دار الحرب - دار الإسلام - هجرة).
الألفاظ ذات الصّلة بإقامة الصّلاة: 4 - هناك ألفاظ لها صلة بالإقامة للصّلاة منها: أ - الأذان: يعرّف الأذان بأنّه: إعلام بدخول وقت الصّلاة بألفاظٍ معلومةٍ مأثورةٍ على صفةٍ مخصوصةٍ يحصل بها الإعلام. فالأذان والإقامة يشتركان في أنّ كلّاً منهما إعلام، ويفترقان من حيث إنّ الإعلام في الإقامة هو للحاضرين المتأهّبين لافتتاح الصّلاة، والأذان للغائبين ليتأهّبوا للصّلاة، كما أنّ صيغة الأذان قد تنقص أو تزيد عن الإقامة على خلافٍ بين المذاهب. ب - التّثويب: التّثويب عود إلى الإعلام بعد الإعلام. وهو عند الفقهاء، زيادة " الصّلاة خير من النّوم ".
5 - في حكم الإقامة التّكليفيّ رأيان: الأوّل: أنّ الإقامة فرض كفايةٍ إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وإذا ترك أثموا جميعاً. قال بهذا الحنابلة، وهو رأي لبعض الشّافعيّة في الصّلوات الخمس، ولبعضٍ آخر للجمعة فقط. وهو رأي عطاءٍ والأوزاعيّ، حتّى روي عنهما أنّه إن نسي الإقامة أعاد الصّلاة، وقال مجاهد: إن نسي الإقامة في السّفر أعاد، ولعلّه لما في السّفر من الحاجة إلى إظهار الشّعائر. واستدلّ للقول بأنّها فرض كفايةٍ بكونها من شعائر الإسلام الظّاهرة، وفي تركها تهاون، فكانت فرض كفايةٍ مثل الجهاد. الثّاني: أنّ الإقامة سنّة مؤكّدة، وهو مذهب المالكيّة، والرّاجح عند الشّافعيّة، وهو الأصحّ عند الحنفيّة، وقال محمّد بالوجوب، ولكن المراد بالسّنّة هنا السّنن الّتي هي من شعائر الإسلام الظّاهرة، فلا يسع المسلمين تركها، ومن تركها فقد أساء، لأنّ ترك السّنّة المتواترة يوجب الإساءة وإن لم يكن من شعائر الإسلام، فهذا أولى، وفسّر أبو حنيفة السّنّيّة بالوجوب، حيث قال في التّاركين: أخطئوا السّنّة وخالفوا وأثموا، والإثم إنّما يلزم بترك الواجب. واحتجّوا للسّنّيّة «بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ المسيء صلاته: افعل كذا وكذا». ولم يذكر الأذان ولا الإقامة مع أنّه صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء واستقبال القبلة وأركان الصّلاة ولو كانت الإقامة واجبةً لذكرها.
6 - تاريخ تشريع الإقامة هو تاريخ تشريع الأذان (ر: أذان). أمّا حكمتها: فهي إعلاء اسم اللّه تعالى واسم رسوله صلى الله عليه وسلم وإقرار للفلاح والفوز عند كلّ صلاةٍ في اليوم أكثر من مرّةٍ، لتركيز ذلك في نفس المسلم، وإظهار لشعيرةٍ من أفضل الشّعائر.
7 - اتّفقت المذاهب على أنّ ألفاظ الإقامة هي نفس ألفاظ الأذان في الجملة بزيادة: " قد قامت الصّلاة - بعد - حيّ على الفلاح ". وكذلك اتّفقوا على أنّ التّرتيب بين ألفاظها هو نفس ترتيب ألفاظ الأذان، إلاّ أنّهم اختلفوا في تكرار وإفراد ألفاظها على الوجه الآتي: اللّه أكبر. تقال في بدء الإقامة " مرّتين " عند المذاهب الثّلاثة، وأربع مرّاتٍ عند الحنفيّة. أشهد أن لا إله إلاّ اللّه. تقال " مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة. أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه. تقال " مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة. حيّ على الصّلاة. تقال: «مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة. حيّ على الفلاح. تقال: «مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة. قد قامت الصّلاة. تقال " مرّتين " عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة " ومرّةً واحدةً " عند المالكيّة على المشهور. اللّه أكبر. تقال " مرّتين " على المذاهب الأربعة. لا إله إلاّ اللّه. تقال " مرّةً واحدةً " على المذاهب الأربعة. ويستخلص من ذلك أنّ المذاهب الثّلاثة تختلف عن الحنفيّة بإفراد أكثر ألفاظ الإقامة كما تقدّم. واحتجّوا بما روي عن أنسٍ قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة». وبما روي عن ابن عمر قال: «إنّما كان الأذان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرّتين مرّتين، والإقامة مرّةً مرّةً». أمّا الحنفيّة فيجعلون الإقامة مثل الأذان بزيادة " قد قامت الصّلاة " مرّتين بعد " حيّ على الفلاح ". واحتجّوا بحديث عبد اللّه بن زيدٍ الأنصاريّ،«أنّه جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه: رأيت في المنام كأنّ رجلاً قام وعليه بردان أخضران، فقام على حائطٍ فأذّن مثنى مثنى، وأقام مثنى مثنى» ولما روي كذلك عن عبد اللّه بن زيدٍ «فاستقبل القبلة يعني الملك، وقال: اللّه أكبر. اللّه أكبر.. إلى آخر الأذان. قال ثمّ أمهل هنيهةً، ثمّ قام فقال مثلها، ألا أنّه قال: زاد بعد ما قال: حيّ على الفلاح: قد قامت الصّلاة، قد قامت الصّلاة». وأمّا المالكيّة فيختلفون عن غيرهم في تثنية قد قامت الصّلاة، فالمشهور عندهم أنّها تقال مرّةً واحدةً. لما روى أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة».
8 - الحدر هو الإسراع وقطع التّطويل. وقد اتّفق الفقهاء على الحدر في الإقامة والتّرسّل في الأذان، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إذا أذّنت فترسّل، وإذا أقمت فاحدر»، ولما روى أبو عبيدٍ بإسناده، عن عمر رضي الله عنه أنّه قال لمؤذّن بيت المقدس: " إذا أذّنت فترسّل، وإذا أقمت فاحذم " قال الأصمعيّ: وأصل الحذم - بالحاء المهملة - في المشي إنّما هو الإسراع.
9 - شرعت الإقامة أهبةً للصّلاة بين يديها، تفخيماً لها كغسل الإحرام، وغسل الجمعة، ثمّ لإعلام النّفس بالتّأهّب والقيام للصّلاة، وإعلام الافتتاح. ولا يصحّ تقديمها على وقت الصّلاة، بل يدخل وقتها بدخول وقت الصّلاة، ويشترط لها شرطان، الأوّل: دخول الوقت، والثّاني: إرادة الدّخول في الصّلاة. فإن أقام قبيل الوقت بجزءٍ يسيرٍ بحيث دخل الوقت عقب الإقامة، ثمّ شرع في الصّلاة عقب ذلك لم تحصل الإقامة، وإن أقام في الوقت وأخّر الدّخول في الصّلاة بطلت إقامته إن طال الفصل، لأنّها تراد للدّخول في الصّلاة فلا يجوز إطالة الفصل.
10 - يشترط في الإقامة ما يأتي: دخول الوقت، ونيّة الإقامة، والأداء باللّغة العربيّة، والخلوّ من اللّحن المغيّر للمعنى، ورفع الصّوت. ولكن رفع الصّوت بالإقامة يكون أخفّ من رفعه بالأذان، لاختلاف المقصود في كلٍّ منهما. فالمقصود من الأذان: إعلام الغائبين بالصّلاة، أمّا الإقامة فالمقصود منها طلب قيام الحاضرين فعلاً للصّلاة، وقد تقدّم ذلك في وقت الإقامة. وكذلك يشترط التّرتيب بين الكلمات والموالاة بين ألفاظ الإقامة. وفي هذه الشّروط خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح " أذان ".
11 - تشترك الإقامة مع الأذان في هذه الشّرائط ونذكرها إجمالاً، ومن أراد زيادة تفصيلٍ فليرجع إلى مصطلح (أذان)، وأوّل هذه الشّروط. أ - الإسلام: اتّفق الفقهاء على اشتراط الإسلام في المقيم، فلا تصحّ الإقامة من الكافر ولا المرتدّ لأنّها عبادة، وهما ليسا من أهلها. ب - الذّكورة: اتّفق الفقهاء على عدم جواز أذان المرأة وإقامتها لجماعة الرّجال، لأنّ الأذان في الأصل للإعلام، ولا يشرع لها ذلك، والأذان يشرع له رفع الصّوت، ولا يشرع لها رفع الصّوت، ومن لا يشرع في حقّه الأذان لا يشرع في حقّه الإقامة. وأمّا إذا كانت منفردةً أو في جماعة النّساء ففيه اتّجاهات. الأوّل: الاستحباب. وهو قول المالكيّة والشّافعيّة، وهي رواية عند الحنابلة. الثّاني: الإباحة. وهي رواية عن أحمد. الثّالث: الكراهة. وهو قول الحنفيّة. ج - العقل: نصّ فقهاء المذاهب على بطلان أذان وإقامة المجنون والمعتوه والسّكران، وقالوا: يجب إعادة أذانهم، ولم يخالف في هذا إلاّ بعض الحنفيّة في السّكران، حيث قالوا بكراهة أذانه وإقامته واستحباب إعادتهما. د - البلوغ: للعلماء في إقامة الصّبيّ ثلاثة آراء: الأوّل: لا تصحّ إقامة الصّبيّ سواء أكان مميّزاً أم غير مميّزٍ، وهو رأي عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة. الثّاني: تصحّ إقامته إن كان مميّزاً عاقلاً، وهو رأي آخر في تلك المذاهب. الثّالث: الكراهة إذا كان مميّزاً، وهو رأي للحنفيّة. هـ- العدالة: في إقامة الفاسق ثلاثة أقوالٍ: الأوّل: لا يعتدّ بها، وهو رأي للحنفيّة، ورأي للحنابلة. الثّاني: الكراهة: وهو رأي للحنفيّة، والشّافعيّة، والمالكيّة. الثّالث: يصحّ ويستحبّ إعادته. وهو رأي للحنفيّة والحنابلة. وينظر تفصيل وتوجيه ذلك في (الأذان). و-الطّهارة: اتّفق الفقهاء على كراهة الإقامة مع الحدث الأصغر، لأنّ السّنّة وصل الإقامة بالشّروع بالصّلاة، واتّفقوا على سنّيّة الإعادة ما عدا الحنفيّة. وفي رأيٍ للحنفيّة أنّ إقامة المحدث حدثاً أصغر جائزة بغير كراهةٍ. أمّا من الحدث الأكبر ففيه رأيان: الأوّل: ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة، إلى كراهة إقامة المحدث حدثاً أكبر. الثّاني: الرّواية الأخرى عند الحنابلة: بطلان الأذان مع الحدث الأكبر، وهو قول عطاءٍ ومجاهد والأوزاعيّ وإسحاق.
12 - اتّفقت المذاهب على استحباب الحدر في الإقامة والتّرسّل في الأذان كما مرّ (ف). وفي الوقف على آخر كلّ جملةٍ في الإقامة رأيان: الأوّل: قال المالكيّة، وهو رأي للحنفيّة، الإقامة معربة إن وصل كلمةً بكلمةٍ. فإن وقف المقيم وقف عليها بالسّكون. الثّاني: قال الحنابلة، وهو رأي آخر للحنفيّة، ورأي للمالكيّة: الإقامة على الجزم مثل الأذان، لما روي عن النّخعيّ موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الأذان جزم، والإقامة جزم، والتّكبير جزم». وفي التّكبيرتين الأوليين أقوال، فالتّكبيرة الأولى فيها قولان: الأوّل، للحنفيّة والمالكيّة: فيها الوقف بالسّكون، والفتح، والضّمّ. الثّاني، رأي للمالكيّة: فيها السّكون، أو الضّمّ. أمّا التّكبيرة الثّانية ففيها أيضاً قولان: الأوّل، رأي للمالكيّة، ورأي للحنفيّة: الجزم لا غير، لما روي أنّ «الإقامة جزم». الثّاني: الإعراب وهو: الضّمّ، وهو رأي آخر للمالكيّة، ورأي للحنفيّة، والجميع جائز، ولكن الخلاف في الأفضل والمستحبّ. 13 - ومن مستحبّات الأذان والإقامة عند المذاهب: استقبال القبلة، غير أنّهم استثنوا من ذلك الالتفات عند الحيعلتين " حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح ". وفي الالتفات عند الحيعلتين في الإقامة ثلاثة آراء. الأوّل: يستحبّ الالتفات عند الحيعلتين. الثّاني: يستحبّ إذا كان المكان متّسعاً، ولا يستحبّ إذا كان المكان ضيّقاً، أو الجماعة قليلةً. وهذان الرّأيان للحنفيّة والشّافعيّة. الثّالث: لا يستحبّ أصلاً لأنّ الاستحباب في الأذان كان لإعلام الغائبين، والإقامة لإعلام الحاضرين المنتظرين للصّلاة، فلا يستحبّ تحويل الوجه، وهذا الرّأي للحنابلة، وهو رأي للحنفيّة، ورأي للشّافعيّة. ويؤخذ من كلام المالكيّة جواز الالتفات في الحيعلتين. وفي رأيٍ آخر أنّ المستحبّ هو استقبال القبلة في الابتداء. 14 - ويستحبّ فيمن يقيم الصّلاة: أن يكون تقيّاً، عالماً بالسّنّة، وعالماً بأوقات الصّلاة، وحسن الصّوت، مرتفعه من غير تطريبٍ ولا غناءٍ، وتفصيل ذلك في الأذان. 15 - واتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ لمقيم الصّلاة أن يقيم واقفاً. وتكره الإقامة قاعداً من غير عذرٍ. فإن كان بعذرٍ فلا بأس. قال الحسن العبديّ: «رأيت أبا زيدٍ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكانت رجله أصيبت في سبيل اللّه، يؤذّن قاعداً» ولما روي أنّ «الصّحابة كانوا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ فانتهوا إلى مضيقٍ، وحضرت الصّلاة، فمطرت السّماء من فوقهم، والبلّة من أسفل فيهم، فأذّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته وأقام، فتقدّم على راحلته، فصلّى بهم يومئ إيماءً، يجعل السّجود أخفض من الرّكوع». كما تكره إقامة الماشي والرّاكب في السّفر وغيره من غير عذرٍ. لما روي أنّ بلالاً رضي الله عنه «أذّن وهو راكب، ثمّ نزل وأقام على الأرض». ولأنّه لو لم ينزل لوقع الفصل بين الإقامة والشّروع في الصّلاة بالنّزول وأنّه مكروه، ولأنّه يدعو النّاس إلى القيام للصّلاة وهو غير متهيّئٍ لها. ويرى الحنابلة أنّ إقامة الرّاكب في السّفر بدون عذرٍ جائزةً بدون كراهةٍ.
16 - يكره في الإقامة: ترك شيءٍ من مستحبّاتها الّتي سبقت الإشارة إليها، وممّا يكره أيضاً: الكلام في الإقامة لغير ضرورةٍ إذا كان كثيراً، أمّا إن كان الكلام في الإقامة لضرورةٍ مثل ما لو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئرٍ، أو حيّةً تدبّ إلى غافلٍ، أو سيّارةً توشك أن تدهمه وجب عليه إنذاره ويبني على إقامته. أمّا الكلام القليل لغير ضرورةٍ ففيه رأيان: الأوّل: لا يكره بل يؤدّي إلى ترك الأفضل. قال بهذا الحنفيّة والشّافعيّة، واستدلّوا لذلك بما ثبت في الصّحيح من «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تكلّم في الخطبة» فالأذان أولى. ألاّ يبطل، وكذلك الإقامة، ولأنّهما يصحّان مع الحدث، وقاعداً، وغير ذلك من وجوه التّخفيف. الثّاني: يكره له ذلك، ويبني على إقامته، وبهذا قال الزّهريّ والمالكيّة والحنابلة، لأنّ الإقامة حدر، وهذا يخالف الوارد، ويقطع بين كلماتها. واتّفق الفقهاء على أنّ التّمطيط والتّغنّي والتّطريب بزيادة حركةٍ أو حرفٍ أو مدٍّ أو غيرها في الأوائل والأواخر مكروه، لمنافاة الخشوع والوقار. أمّا إذا تفاحش التّغنّي والتّطريب بحيث يخلّ بالمعنى فإنّه يحرم بدون خلافٍ في ذلك. لما روي أنّ رجلاً قال لابن عمر:«إنّي لأحبّك في اللّه. قال: وأنا أبغضك في اللّه، إنّك تتغنّى في أذانك». قال: حمّاد يعني التّطريب.
17 - قال الشّافعيّة والحنابلة: ينبغي أن يتولّى الإقامة من تولّى الأذان. واحتجّوا بما روي عن الحارث الصّدائيّ أنّه قال: «بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى حاجةٍ له فأمرني أن أؤذّن فأذّنت، فجاء بلال وأراد أن يقيم، فنهاه عن ذلك وقال: إنّ أخا صداءٍ هو الّذي أذّن، ومن أذّن فهو الّذي يقيم» ولأنّهما فعلان من الذّكر يتقدّمان الصّلاة، فيسنّ أن يتولّاهما واحد كالخطبتين، ووافقهم الحنفيّة على هذا الرّأي إذا كان المؤذّن يتأذّى من إقامة غيره، لأنّ أذى المسلم مكروه. وقال المالكيّة: لا بأس أن يؤذّن رجل ويقيم غيره، لما رواه أبو داود في حديث عبد اللّه بن زيدٍ أنّه رأى الأذان في المنام فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «ألقه على بلالٍ، فألقاه عليه، فأذّن بلال، فقال عبد اللّه: أنا رأيته وأنا كنت أريده قال: أقم أنت». ولأنّه يحصل المقصود منه، فأشبه ما لو تولّاهما معاً، ووافقهم على ذلك الحنفيّة إذا كان المؤذّن لا يتأذّى من إقامة غيره.
18 - لو صلّى في مسجدٍ بأذانٍ وإقامةٍ، هل يكره أن يؤذّن ويقام فيه ثانياً ؟ في المسألة ثلاثة آراء: الأوّل للحنفيّة، وهو رأي للمالكيّة، ورأي ضعيف للشّافعيّة: إذا صلّى في المسجد بأذانٍ وإقامةٍ كره لمن جاء بعدهم أن يؤذّن ويقيم، وشرط الحنفيّة أن يكون من أذّن وصلّى أوّلاً هم أهل المسجد " أي أهل حيّه " فمن، جاء بعدهم فأذان الجماعة وإقامتهم لهم أذان وإقامة. الثّاني في الرّأي الرّاجح للمالكيّة والشّافعيّة: يستحبّ أن يؤذّن ويقيم للجماعة الثّانية، إلاّ أنّه لا يرفع صوته فوق ما يسمعون، ووافقهم على ذلك الحنفيّة إذا كان المسجد على الطّريق، وليس له أهل معلومون، أو صلّى فيه غير أهله بأذانٍ وإقامةٍ، فإنّه يجوز لأهله أن يؤذّنوا ويقيموا. الثّالث للحنابلة: الخيار، إن شاء أذّن وأقام ويخفي أذانه وإقامته، وإن شاء صلّى من غير أذانٍ ولا إقامةٍ.
19 - يقام للصّلوات الخمس المفروضة في حال الحضر والسّفر والانفراد والجماعة والجمعة. واتّفق الفقهاء على طلب الإقامة لكلٍّ من الصّلاتين المجموعتين، لأنّ «الرّسول صلى الله عليه وسلم جمع المغرب والعشاء بمزدلفة وأقام لكلّ صلاةٍ». ولأنّهما صلاتان جمعهما وقت واحد، وتصلّى كلّ صلاةٍ وحدها، فاقتضى أن تكون لكلّ صلاةٍ إقامة. واتّفق الفقهاء على طلب الإقامة للصّلوات الفوائت، لما روي عن أبي سعيدٍ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «أنّه حين شغلهم الكفّار يوم الأحزاب عن أربع صلواتٍ أمر بلالاً أن يؤذّن ويقيم لكلّ واحدةٍ منهنّ، حتّى قالوا: أذّن وأقام وصلّى الظّهر، ثمّ أذّن وأقام وصلّى العصر، ثمّ أذّن وأقام وصلّى المغرب، ثمّ أذّن وأقام وصلّى العشاء». واتّفق الفقهاء على استحباب الإقامة للمنفرد، سواء صلّى في بيته أو في مكان آخر غير المسجد، لخبر عقبة بن عامرٍ، قال: «سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: يعجب ربّك من راعي غنمٍ في رأس الشّظيّة للجبل يؤذّن ويقيم للصّلاة ويصلّي، فيقول اللّه عزّ وجلّ: انظروا إلى عبدي هذا يؤذّن ويقيم الصّلاة يخاف منّي، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنّة». ولكنّه إذا اقتصر على أذان الحيّ وإقامته أجزأه، لما روي أنّ عبد اللّه بن مسعودٍ «صلّى بعلقمة والأسود بغير أذانٍ ولا إقامةٍ وقال: يكفينا أذان الحيّ وإقامتهم».
20 - الأذان والإقامة للفرد والجماعة مشروعان في السّفر كما في الحضر، سواء أكان السّفر سفر قصرٍ أو دونه.
21 - في الإقامة للصّلاة المعادة في وقتها للفساد رأيان: الأوّل: للحنفيّة: تعاد الصّلاة الفاسدة في الوقت بغير أذانٍ ولا إقامةٍ، وأمّا إن قضوها بعد الوقت قضوها في غير ذلك المسجد بأذانٍ وإقامةٍ. الثّاني: للمالكيّة: يقام للصّلاة المعادة للبطلان أو الفساد، ولم يعثر للشّافعيّة والحنابلة على تصريحٍ بذلك، ولكن قواعدهم لا تأباه.
22 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يسنّ الإقامة لغير الصّلوات الخمس والجمعة. فلا أذان ولا إقامة لصلاة الجنازة ولا للوتر ولا للنّوافل ولا لصلاة العيدين وصلاة الكسوف والخسوف والاستسقاء. لما روي عن «جابر بن سمرة قال: صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم العيد غير مرّةٍ ولا مرّتين بغير أذانٍ ولا إقامةٍ». وما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً ينادي: الصّلاة جامعة».
23 - نصّ الفقهاء على صيغة الإجابة باللّسان فقالوا: يقول السّامع مثل ما يقول المقيم، إلاّ في الحيعلتين " حيّ على الصّلاة وحيّ على الفلاح" فإنّه يحوقل "لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ". ويزيد عند إقامة الصّلاة " أقامها اللّه وأدامها "، لما روى أبو داود بإسناده عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنّ بلالاً أخذ في الإقامة فلمّا أن قال: قد قامت الصّلاة، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أقامها اللّه وأدامها». وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان الّذي رواه جعفر بن عاصمٍ عن أبيه عن عمر بن الخطّاب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال المؤذّن: اللّه أكبر اللّه أكبر، فقال أحدكم: اللّه أكبر اللّه أكبر» وانظر مصطلح أذان. وحكم الإجابة باللّسان أنّها سنّة عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وأمّا الحنفيّة فإنّ الإجابة عندهم تكون في الأذان دون الإقامة.
24 - صرّح الفقهاء باستحباب الفصل بين الأذان والإقامة بصلاةٍ أو جلوسٍ أو وقتٍ يسع حضور المصلّين فيما سوى المغرب، مع ملاحظة الوقت المستحبّ للصّلاة. وتكره عندهم الإقامة للصّلاة بعد الأذان مباشرةً بدون هذا الفصل، وذلك لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «أنّه قال لبلالٍ: اجعل بين أذانك وإقامتك نفساً حتّى يقضي المتوضّئ حاجته في مهلٍ، وحتّى يفرغ الآكل من أكل طعامه في مهلٍ» وفي روايةٍ: «ليكن بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله، والشّارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته». ولأنّ المقصود بالأذان إعلام النّاس بدخول الوقت ليتهيّئوا للصّلاة بالطّهارة فيحضروا المسجد، وبالوصل ينتفي هذا المقصود، وتفوت صلاة الجماعة على كثيرٍ من المسلمين. وقد ورد عن بعض الفقهاء تحديد مقدار الفصل بين الأذان والإقامة، فروى الحسن عن أبي حنيفة أنّ مقدار الفصل في الفجر قدر ما يقرأ عشرين آيةً، وفي الظّهر قدر ما يصلّي أربع ركعاتٍ، يقرأ في كلّ ركعةٍ نحواً من عشر آياتٍ، وفي العصر مقدار ما يصلّي ركعتين، يقرأ في كلّ ركعةٍ نحواً من عشر آياتٍ. أمّا في المغرب: فقد اتّفق الفقهاء على تعجيل الإقامة فيها لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «بين كلّ أذانين صلاة لمن شاء إلاّ المغرب» لأنّ مبنى المغرب على التّعجيل، ولما روى أبو أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لن تزال أمّتي بخيرٍ ما لم يؤخّروا المغرب إلى اشتباك النّجوم» وعلى هذا يسنّ أن يكون الفصل بين الأذان والإقامة فيها يسيراً. وللعلماء في مقدار هذا الفصل اليسير أقوال: أ - قال أبو حنيفة والمالكيّة: يفصل بين الأذان والإقامة في المغرب قائماً بمقدار ثلاث آياتٍ، ولا يفصل بالصّلاة، لأنّ الفصل بالصّلاة تأخير، كما لا يفصل المقيم بالجلوس، لأنّه تأخير للمغرب، ولأنّه لم يفصل بالصّلاة فبغيرها أولى. ب - وقال أبو يوسف ومحمّد: يفصل بجلسةٍ خفيفةٍ كالجلسة بين الخطبتين، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة والحنابلة، ووجه قولهم أنّ الفصل مسنون ولا يمكن بالصّلاة، فيفصل بالجلسة لإقامة السّنّة. ج - وأجاز الحنابلة وبعض الشّافعيّة الفصل بركعتين بين الأذان والإقامة في المغرب، أي أنّهما لا يكرهان ولا يستحبّان.
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا وجد من يؤذّن ويقيم محتسباً - ممّن تتحقّق فيه شرائط المؤذّن - فلا يجوز استئجار أحدٍ للأذان والإقامة. وأمّا إذا لم يوجد المتطوّع أو وجد ولم تتحقّق فيه الشّروط فهل يستأجر على الأذان والإقامة ؟ في المسألة ثلاثة آراء: الأوّل: المنع لأنّه طاعة، ولا يجوز استئجار أحدٍ على الطّاعة لأنّه عامل لنفسه، ولما روي أنّ «آخر ما عهد به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعثمان بن العاص رضي الله عنه أن يصلّي بالنّاس صلاة أضعفهم، وأن يتّخذ مؤذّناً لا يأخذ عليه أجراً» وهذا الرّأي لمتقدّمي الحنفيّة، وهو رأي للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة. الثّاني: الجواز لأنّه كسائر الأعمال، وهو قول لمتأخّري الحنفيّة، ورأي للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، ووجه ذلك: أنّ بالمسلمين حاجةً إليه، وقد لا يوجد متطوّع. ولأنّه إذا انقطع له قد لا يجد ما يقيت به عياله. الثّالث، وهو رأي للشّافعيّة: يجوز للإمام أن يستأجر دون آحاد النّاس لأنّه هو الّذي يتولّى مصالح المسلمين. ويجوز له الإعطاء من بيت المال. هذا، وقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لا يجوز الاستئجار على الإقامة فقط بدون الأذان لأنّه عمل قليل. والتّفصيل في مصطلح (أذان، وإجارة).
26 - يستحبّ الأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى، لما روي عن أبي رافعٍ قال: «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة بالصّلاة». وينظر مصطلح (أذان) فقرة 51 (ج 2 ص 372).
1 - الاقتباس في اللّغة: هو طلب القبس، وهو الشّعلة من النّار، ويستعار لطلب العلم، قال الجوهريّ في الصّحاح: اقتبست منه علماً: أي استفدته. وفي الاصطلاح: تضمين المتكلّم كلامه - شعراً كان أو نثراً - شيئاً من القرآن أو الحديث، على وجهٍ لا يكون فيه إشعار بأنّه من القرآن أو الحديث.
2 - الاقتباس على نوعين: أحدهما: ما لم ينقل فيه المقتبس (بفتح الباء) عن معناه الأصليّ، ومنه قول الشّاعر: قد كان ما خفت أن يكونا *** إنّا إلى اللّه راجعونا وهذا من الاقتباس الّذي فيه تغيير يسير، لأنّ الآية {إنّا إليه راجعون}. والثّاني: ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصليّ كقول ابن الرّوميّ: لئن أخطأت في مدحك *** ما أخطأت في منعي لقد أنزلت حاجاتي *** (بوادٍ غير ذي زرعٍ) فقوله {بوادٍ غير ذي زرعٍ} اقتباس من القرآن الكريم، فهي وردت في القرآن الكريم بمعنى " مكّة المكرّمة "، إذ لا ماء فيها ولا نبات، فنقله الشّاعر عن هذا المعنى الحقيقيّ إلى معنًى مجازيٍّ هو: " لا نفع فيه ولا خير ".
3 - يرى جمهور الفقهاء جواز الاقتباس في الجملة إذا كان لمقاصد لا تخرج عن المقاصد الشّرعيّة تحسيناً للكلام، أمّا إن كان كلاماً فاسداً فلا يجوز الاقتباس فيه من القرآن، وذلك ككلام المبتدعة وأهل المجون والفحش. قال السّيوطيّ: لم يتعرّض له المتقدّمون ولا أكثر المتأخّرين، من الشّافعيّة مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشّعراء له قديماً وحديثاً، وقد تعرّض له جماعة من المتأخّرين، فسئل عنه الشّيخ العزّ بن عبد السّلام فأجازه، واستدلّ له بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله في الصّلاة وغيرها: «وجّهت وجهي...» إلخ. وقوله: «اللّهمّ فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكناً والشّمس والقمر حسباناً اقض عنّي الدّين وأغنني من الفقر». وفي سياق الكلام لأبي بكرٍ... {وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون}. وفي حديثٍ لابن عمر... {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة}. وقد اشتهر عند المالكيّة تحريمه وتشديد النّكير على فاعله، لكن منهم من فرّق بين الشّعر فكره الاقتباس فيه، وبين النّثر فأجازه. وممّن استعمله في النّثر من المالكيّة القاضي عياض وابن دقيق العيد وقد استعمله فقهاء الحنفيّة في كتبهم الفقهيّة. 4 - ونقل السّيوطيّ عن شرح بديعيّة ابن حجّة أن الاقتباس ثلاثة أقسامٍ: الأوّل: مقبول، وهو ما كان في الخطب والمواعظ والعهود. والثّاني: مباح، وهو ما كان في الغزل والرّسائل والقصص. والثّالث: مردود، وهو على ضربين. أحدهما: اقتباس ما نسبه اللّه إلى نفسه، بأن ينسبه المقتبس إلى نفسه، كما قيل عمّن وقع على شكوى بقوله: {إنّ إلينا إيابهم، ثمّ إنّ علينا حسابهم}. والآخر: تضمين آيةٍ في معنى هزلٍ أو مجونٍ. قال السّيوطيّ: وهذا التّقسيم حسن جدّاً، وبه أقول.
1 - الاقتداء لغةً: مصدر اقتدى به، إذا فعل مثل فعله تأسّياً، ويقال: فلان قدوة: أي يقتدى به، ويتأسّى بأفعاله. ويستعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ، وهو إذا كان في الصّلاة يعرّفونه بأنّه: اتّباع المؤتمّ الإمام في أفعال الصّلاة. أو هو ربط صلاة المؤتمّ بالإمام بشروطٍ خاصّةٍ جاء بها الشّرع، وبيّنها الفقهاء في كتاب الصّلاة عند الكلام عن صلاة الجماعة. أ - الائتمام: 2 - الائتمام: بمعنى الاقتداء. يقول ابن عابدين: إذا ربط صلاته بصلاة إمامه حصل له صفة الاقتداء والائتمام، وحصل لإمامه صفة الإمامة. والاقتداء في استعمال الفقهاء أعمّ من الائتمام، لأنّه يكون في الصّلاة وغيرها. ب - الاتّباع: 3 - من معاني الاتّباع في اللّغة: المشي خلف الغير، ومنه اتّباع الجنائز، والمطالبة بالحقّ كما في الآية {فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف} ويأتي بمعنى الائتمام، يقال: اتّبع القرآن: ائتمّ به وعمل بما فيه. واستعمله الفقهاء بهذه المعاني، كما استعملوه بمعنى الرّجوع إلى قولٍ ثبتت عليه حجّة، فهو بهذا المعنى أخصّ من الاقتداء. ج - التّأسّي: 4 - التّأسّي في اللّغة: من الأسوة بمعنى القدوة، يقال: تأسّيت به وائتسيت: أي اقتديت. فالتّأسّي بمعنى الاقتداء. ومن معاني التّأسّي: التّعزّي، أي: التّصبّر. وأكثر ما يكون الاقتداء في الصّلاة، أمّا التّأسّي فيستعمل في غير ذلك. د - التّقليد: 5 - التّقليد عبارة عن: قبول قول الغير بلا حجّةٍ ولا دليلٍ.
6 - الاقتداء على أقسامٍ، منها: اقتداء المؤتمّ بالإمام في أفعاله من القيام والرّكوع والسّجود وغيرها. ومنها: الاقتداء في غير الصّلاة، فهو بمعنى التّأسّي، كاقتداء الأمّة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، واتّباع سنّته، وغير ذلك كما سيأتي.
7 - الاقتداء في الصّلاة هو: ربط صلاة المؤتمّ بصلاة الإمام كما سبق، فلا بدّ أن يكون هناك إمام ومقتدٍ، ولو واحداً. وأقلّ من تنعقد به الجماعة - في غير العيدين والجمعة - اثنان، وهو أن يكون مع الإمام واحد، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» ولفعله عليه الصلاة والسلام حين «صلّى بابن عبّاسٍ وحده». وسواء كان ذلك الواحد رجلاً أو امرأةً أو صبيّاً يعقل، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّى الاثنين مطلقاً جماعةً. وأمّا المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل فلا عبرة بهما، لأنّهما ليسا من أهل الصّلاة. هذا، وهناك شروط لا بدّ من توفّرها في الاقتداء والمقتدى به (الإمام)، وحالات تخصّ المقتدي أي (المأموم) نذكرها فيما يلي:
8 - يشترط في الإمام في الجملة: الإسلام والعقل اتّفاقاً، والبلوغ عند الجمهور، وكذلك الذّكورة إذا كان المقتدون ذكوراً، والسّلامة من الأعذار - كرعافٍ وسلس البول - إذا اقتدى به أصحّاء، والسّلامة من عاهات اللّسان - كفأفأةٍ وتمتمةٍ - إذا اقتدى به السّليم منهما، وكذا السّلامة من فقد شرطٍ كطهارةٍ وستر عورةٍ. على تفصيلٍ وخلافٍ في بعضها يذكر في مصطلح: (إمامة).
أ - النّيّة: 9 - اتّفق الفقهاء على أنّ نيّة المؤتمّ الاقتداء بالإمام شرط لصحّة الاقتداء، إذ المتابعة عمل يفتقر إلى النّيّة. والمعتبر في النّيّة عمل القلب اللّازم للإرادة، ويستحبّ التّلفّظ بها عند الحنفيّة والشّافعيّة، وهو قول للحنابلة قياساً على الحجّ. وذكر جماعة إلى أنّ التّلفّظ بها بدعة، لأنّه لم يرد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من الصّحابة والتّابعين. ويشترط في النّيّة أن تكون مقارنةً للتّحريمة، أو متقدّمةً عليها بشرط ألاّ يفصل بينها وبين التّحريمة فاصل أجنبيّ، وعلى ذلك فلا تصحّ نيّة الاقتداء في خلال الصّلاة بعدما أحرم منفرداً عند جمهور الفقهاء: (الحنفيّة، والمالكيّة، وهو رواية عند الحنابلة) وقال الشّافعيّة، وهو رواية عند الحنابلة: يجوز للّذي أحرم منفرداً أن يجعل نفسه مأموماً، بأن تحضر جماعة فينوي الدّخول معهم بقلبه في صلاتهم، سواء أكان في أوّل الصّلاة أم قد صلّى ركعةً فأكثر. ولا فرق في اشتراط النّيّة للمأموم بين الجمعة وسائر الصّلوات عند المالكيّة، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة. وعند الحنفيّة، وهو مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة: لا يشترط في الجمعة نيّة الاقتداء وكذلك العيدان، لأنّ الجمعة لا تصحّ بدون الجماعة، فكان التّصريح بنيّة الجمعة أو العيد مغنياً عن التّصريح بنيّة الجماعة. ولا يجب تعيين الإمام باسمه كزيدٍ، أو صفته كالحاضر، أو الإشارة إليه، بل تكفي نيّة الاقتداء بالإمام، فإن عيّنه وأخطأ بطلت صلاته، لربط صلاته بمن لم ينو الاقتداء به. هذا، ولا يشترط لصحّة الاقتداء أن يكون الإمام قد نوى الإمامة عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنابلة. واشترط الحنفيّة نيّة الرّجل الإمامة لصحّة اقتداء النّساء به. وتفصيله في مصطلح (إمامة) ب - عدم التّقدّم على الإمام: 10 - يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يتقدّم المقتدي إمامه في الموقف عند جمهور الفقهاء: (الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة) لحديث: «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به» والائتمام الاتّباع، والمتقدّم غير تابعٍ، ولأنّه إذا تقدّم الإمام يشتبه عليه حال الإمام، ومحتاج إلى النّظر وراءه في كلّ وقتٍ ليتابعه، فلا يمكنه المتابعة. وقال مالك: هذا ليس بشرطٍ، ويجزئه التّقدّم إذا أمكنه متابعة الإمام، لأنّ الاقتداء يوجب المتابعة في الصّلاة، والمكان ليس من الصّلاة. لكنّه يندب أن يكون الإمام متقدّماً على المأموم، ويكره التّقدّم على الإمام ومحاذاته إلاّ لضرورةٍ. والاعتبار في التّقدّم وعدمه للقائم بالعقب، وهو مؤخر القدم لا الكعب، فلو تساويا في العقب وتقدّمت أصابع المأموم لطول قدمه لم يضرّ. وكذلك إذا كان المأموم طويلاً وسجد قدّام الإمام، إذا لم تكن عقبه مقدّمةً على الإمام حالة القيام، صحّت الصّلاة، أمّا لو تقدّمت عقبه وتأخّرت أصابعه فيضرّ، لأنّه يستلزم تقدّم المنكب، والعبرة في التّقدّم بالألية للقاعدين، وبالجنب للمضطجعين. 11 - فإذا كان المأموم امرأةً أو أكثر من واحدٍ يقف خلف الإمام، وإذا كان واحداً ذكراً - ولو صبيّاً - يقف على يمين الإمام مساوياً له عند الجمهور، وذهب الشّافعيّة ومحمّد بن الحسن إلى أنّه يستحبّ تأخّره عن الإمام قليلاً. وصرّح الحنفيّة بأنّ محاذاة المرأة للرّجال تفسد صلاتهم. يقول الزّيلعيّ الحنفيّ: فإن حاذته امرأة مشتهاة في صلاةٍ مطلقةٍ - وهي الّتي لها ركوع وسجود - مشتركةٍ بينهما تحريمةً وأداءً في مكان واحدٍ بلا حائلٍ، ونوى الإمام إمامتها وقت الشّروع بطلت صلاته دون صلاتها، لحديث: «أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه» وهو المخاطب به دونها، فيكون هو التّارك لفرض القيام، فتفسد صلاته دون صلاتها. وجمهور الفقهاء: (المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة) يقولون: إنّ محاذاة المرأة للرّجال لا تفسد الصّلاة، ولكنّها تكره، فلو وقفت في صفّ الرّجال لم تبطل صلاة من يليها ولا من خلفها ولا من أمامها، ولا صلاتها، كما لو وقفت في غير الصّلاة، والأمر في الحديث بالتّأخير لا يقتضي الفساد مع عدمه. هذا، وفي الصّلاة حول الكعبة في المسجد الحرام يشترط لصحّة الاقتداء عند الجمهور عدم تقدّم المأموم على الإمام في نفس الجهة، حتّى إذا تقدّمه في غير جهتهما لم يضرّ اتّفاقاً. وتفصيل هذه المسألة وكيفيّة الصّلاة داخل الكعبة يرجع فيه إلى مصطلحي: (صلاة الجماعة، واستقبال القبلة). ت - ألاّ يكون المقتدي أقوى حالاً من الإمام: 12 - يشترط لصحّة الاقتداء عند جمهور الفقهاء (الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة) ألاّ يكون المقتدي أقوى حالاً من الإمام، فلا يجوز اقتداء قارئٍ بأمّيٍّ، ولا مفترضٍ بمتنفّلٍ، ولا بالغٍ بصبيٍّ في فرضٍ، ولا قادرٍ على ركوعٍ وسجودٍ بعاجزٍ عنهما، وكذلك لا يصحّ اقتداء سالمٍ بمعذورٍ، كمن به سلس بولٍ، ولا مستور عورةٍ بعارٍ عند الحنفيّة والحنابلة، ويكره ذلك عند المالكيّة. وقد ذكر الحنفيّة في ذلك قاعدةً فقالوا: الأصل أنّ حال الإمام إن كان مثل حال المقتدي أو فوقه جازت صلاة الكلّ، وإن كان دون حال المقتدي صحّت صلاة الإمام. ولا تصحّ صلاة المقتدي. إلاّ إذا كان الإمام أمّيّاً والمقتدي قارئاً، أو كان الإمام أخرس فلا يصحّ صلاة الإمام أيضاً. وقد توسّع الحنفيّة في تطبيق هذا الأصل على كثيرٍ من المسائل، ووافقهم المالكيّة والحنابلة في هذه القاعدة مع خلافٍ وتفصيلٍ في بعض المسائل. وخالفهم الشّافعيّة في أكثر المسائل كما سيأتي بيانه عند الكلام في: (اختلاف صفة الإمام والمقتدي). ث - اتّحاد صلاتي المقتدي والإمام: 13 - يشترط في الاقتداء اتّحاد صلاتي الإمام والمأموم سبباً وفعلاً ووصفاً، لأنّ الاقتداء بناء التّحريمة على التّحريمة، فالمقتدي عقد تحريمته لمّا انعقدت له تحريمة الإمام، فكلّ ما تنعقد له تحريمة الإمام جاز البناء عليه من المقتدي، وعلى ذلك فلا تصحّ ظهر خلف عصرٍ أو غيره ولا عكسه، ولا تصحّ صلاة ظهرٍ قضاءً خلف ظهرٍ أداءً، ولا ظهرين من يومين مختلفين، كظهر يوم السّبت خلف ظهر الأحد الماضيين، إذ لا بدّ من الاتّحاد في عين الصّلاة وصفتها وزمنها، وهذا عند جمهور الفقهاء: (الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة) وذلك لقوله عليه السلام: «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه». وقال الشّافعيّة: من شروط صحّة القدوة توافق نظم صلاتيهما في الأفعال الظّاهرة، ولا يشترط اتّحاد الصّلاتين. وعلى ذلك تصحّ قدوة من يؤدّي الصّلاة بمن يقضيها، والمفترض بالمتنفّل، ومؤدّي الظّهر بالعصر، وبالمعكوس. أي القاضي بالمؤدّي، والمتنفّل بالمفترض، وفي العصر بالظّهر، نظراً لاتّفاق الفعل في الصّلاة وإن اختلفت النّيّة. وكذا يجوز الظّهر والعصر بالصّبح والمغرب، وتجوز الصّبح خلف الظّهر في الأظهر عند الشّافعيّة، وله حينئذٍ الخروج بنيّة المفارقة أو الانتظار ليسلّم مع الإمام وهو الأفضل. لكن الأولى فيها الانفراد. فإن اختلف فعلهما كمكتوبةٍ وكسوفٍ أو جنازةٍ، لم يصحّ الاقتداء في ذلك على الصّحيح، لمخالفته النّظم، وتعذّر المتابعة معها. أمّا اقتداء المتنفّل خلف المفترض فجائز عند جميع الفقهاء. ج- عدم الفصل بين المقتدي والإمام: 14- يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يكون بين المقتدي والإمام فاصل كبير. وهذا الشّرط محلّ اتّفاقٍ بين فقهاء المذاهب في الجملة، وإن اختلفوا في بعض الفروع والتّفاصيل على النّحو التّالي:
15 - فرّق جمهور الفقهاء بين المسجد وغير المسجد فيما يتعلّق بالمسافة بين الإمام والمقتدي، فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة: إذا كان المأموم يرى الإمام أو من وراءه، أو يسمع التّكبير وهما في مسجدٍ واحدٍ صحّ الاقتداء، وإن بعدت المسافة. أمّا في خارج المسجد فإذا كانت المسافة قدر ما يسع صفّين فإنّها تمنع من صحّة الاقتداء عند الحنفيّة، إلاّ في صلاة العيدين، وفي صلاة الجنازة خلاف عندهم. ولا يمنع الاقتداء بعد المسافة في خارج المسجد إذا لم يزد عن ثلاثمائة ذراعٍ عند الشّافعيّة. واشترط الحنابلة في صحّة الاقتداء خارج المسجد رؤية المأموم للإمام أو بعض من وراءه. فلا يصحّ الاقتداء إن لم ير المأموم أحدهما، وإن سمع التّكبير، ومهما كانت المسافة. ولم يفرّق المالكيّة بين المسجد وغيره ولا بين قرب المسافة وبعدها، فقالوا بصحّة الاقتداء إذا أمكن رؤية الإمام أو المأموم أو سماع الإمام ولو بمسمّعٍ.
وجود الحائل، وله عدّة صورٍ: 16 - الأولى: إن كان بين المقتدي والإمام نهر كبير تجري فيه السّفن (ولو زورقاً عند الحنفيّة) لا يصحّ الاقتداء، وهذا باتّفاق المذاهب، وإن اختلفوا في تحديد النّهر الكبير والصّغير. فقال الحنفيّة والحنابلة: النّهر الصّغير هو ما لا تجري فيه السّفن، وقال المالكيّة: هو ما لا يمنع من سماع الإمام، أو بعض المأمومين، أو رؤية فعل أحدهما. وقال الشّافعيّة: هو النّهر الّذي يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر من غير سباحةٍ بالوثوب فوقه، أو المشي فيه، وفي حكمه النّهر المحوج إلى سباحةٍ عند الشّافعيّة على الصّحيح. 17 - الثّانية: يمنع من الاقتداء طريق نافذ يمكن أن تجري فيه عجلة، وليس فيه صفوف متّصلة عند الحنفيّة والحنابلة. قال الحنفيّة: لو كان على الطّريق مأموم واحد لا يثبت به الاتّصال، وبالثّلاث يثبت، وفي المثنّى خلاف. ولا يضرّ الطّريق إذا لم يمنع من سماع الإمام أو بعض المأمومين أو رؤية فعل أحدهما عند المالكيّة، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة، ولهذا صرّحوا بجواز صلاة الجماعة لأهل الأسواق وإن فرّقت الطّرق بينهم وبين إمامهم. والرّواية الثّانية عند الشّافعيّة يضرّ، لأنّه قد تكثر فيه الزّحمة فيعسر الاطّلاع على أحوال الإمام. هذا، وأجاز أكثر الفقهاء الفصل بطريقٍ في صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الخوف ونحوها، والتّفصيل في مواضعها. 18 - الثّالثة: صرّح الحنفيّة والشّافعيّة، وهو رواية عن الحنابلة، بأنّه إذا كان بين الإمام والمأموم جدار كبير أو باب مغلق يمنع المقتدي من الوصول إلى إمامه لو قصد الوصول إليه لا يصحّ الاقتداء، ويصحّ إذا كان صغيراً لا يمنع، أو كبيراً وله ثقب لا يشتبه عليه حال الإمام سماعاً أو رؤيةً، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «كان يصلّي في حجرة عائشة رضي الله عنها والنّاس في المسجد يصلّون بصلاته». قال الشّافعيّة: فإن حال ما يمنع المرور لا الرّؤية كالشّبّاك أو يمنع الرّؤية لا المرور كالباب المردود فوجهان. وعلى هذا الاقتداء في المساكن المتّصلة بالمسجد الحرام وأبوابها من خارجه صحيح، إذا لم يشتبه حال الإمام لسماعٍ أو رؤيةٍ، ولم يتخلّل إلاّ الجدار، كما ذكره شمس الأئمّة فيمن صلّى على سطح بيته المتّصل بالمسجد أو في منزله بجنب المسجد وبينه وبين المسجد حائط مقتدياً بإمامٍ في المسجد وهو يسمع التّكبير من الإمام أو من المكبّر تجوز صلاته. ويصحّ اقتداء الواقف على السّطح بمن هو في البيت، ولا يخفى عليه حاله. ولم يفرّق المالكيّة، وهو رواية عند الحنابلة بين ما إذا كان الجدار كبيراً أو صغيراً، فقالوا بجواز الاقتداء إذا لم يمنع من سماع الإمام أو بعض المأمومين أو رؤية فعل أحدهما. ح - اتّحاد المكان: 19 - يشترط لصحّة الاقتداء أن يجمع المقتدي والإمام موقف واحد، إذ من مقاصد الاقتداء اجتماع جمعٍ في مكان، كما عهد عليه الجماعات في الأعصر الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الاتّباع فيشترط ليظهر الشّعار. وللفقهاء في تطبيق هذا الشّرط تفصيل، وفي بعض الفروع خلاف كالآتي: أوّلاً - الأبنية المختلفة: 20 - تقدّم ما يتعلّق بالأبنية المنفصلة. ثانياً - الاقتداء في السّفن المختلفة: 21 - يشترط في الاقتداء ألاّ يكون المقتدي في سفينةٍ والإمام في سفينةٍ أخرى غير مقترنةٍ بها عند الحنفيّة، وهو المختار عند الحنابلة، لاختلاف المكان، ولو اقترنتا صحّ اتّفاقاً، للاتّحاد الحكميّ. والمراد بالاقتران: مماسّة السّفينتين، وقيل ربطهما. وتوسّع المالكيّة في جواز اقتداء ذوي سفنٍ متقاربةٍ، ولم يشترطوا ربط السّفينتين، ولا المماسّة، ولم يحدّدوا المسافة حيث قالوا: جاز اقتداء ذوي سفنٍ متقاربةٍ في المرسى بإمامٍ واحدٍ في بعضها يسمعون أقواله أو أقوال من معه في سفينته من مأمومين، أو يرون أفعاله أو أفعال من معه في سفينته من مأمومين. وكذلك لو كانت السّفن سائرةً على المشهور، لأنّ الأصل السّلامة من طروء ما يفرّقها من ريحٍ أو غيره. لكنّهم نصّوا على استحباب أن يكون الإمام في السّفينة الّتي تلي القبلة. وقال الشّافعيّة: لو كانا في سفينتين صحّ اقتداء أحدهما بالآخر وإن لم تكونا مكشوفتين، ولم تربط إحداهما بالأخرى، بشرط ألاّ تزيد المسافة على ثلاثمائة ذراعٍ، وعدم الحائل، والماء بينهما كالنّهر بين المكانين، بمعنى أنّه يمكن اجتيازه سباحةً ولم يشترطوا الالتصاق ولا الرّبط، خلافاً للحنفيّة، والمختار عند الحنابلة. ثالثاً: علوّ موقف المقتدي على الإمام أو عكسه: 22 - يجوز أن يكون موقف المأموم عالياً - ولو بسطحٍ - عن الإمام عند الحنفيّة والحنابلة، وهو رأي المالكيّة في غير صلاة الجمعة. فصحّ اقتداء من بسطح المسجد بالإمام الّذي يصلّي بالمسجد، لإمكان المتابعة. ويكره أن يكون موقف الإمام عالياً عن موقف المأموم. ولم يفرّق الشّافعيّة بين ارتفاع موقف الإمام والمأموم، فشرطوا في هذه الحال، محاذاة بعض بدن المأموم بعض بدن الإمام، والعبرة في ذلك بالطّول العاديّ، وقال النّوويّ يكره ارتفاع المأموم على إمامه حيث أمكن وقوفهما بمستوًى واحدٍ، وعكسه كذلك، إلاّ لحاجةٍ تتعلّق بالصّلاة، كتبليغٍ يتوقّف عليه إسماع المأمومين وتعليمهم صفة الصّلاة، فيستحبّ ارتفاعهما لذلك، تقديماً لمصلحة الصّلاة. وهذا الكلام في البناء ونحوه. أمّا الجبل الّذي يمكن صعوده كالصّفا أو المروة أو جبل أبي قبيسٍ فالعبرة فيه بالمسافة الّتي سبق القول فيها وهي ثلاثمائة ذراعٍ. فالاقتداء فيه صحيح وإن كان المأموم أعلى من الإمام. خ - عدم توسّط النّساء بين الإمام والمأموم: 23 - يشترط لصحّة الاقتداء عند الجمهور عدم توسّط النّساء، فإن وقفت المرأة في صفّ الرّجل كره، ولم تبطل صلاتها، ولا صلاة من يليها، ولا من خلفها. لأنّها لو وقفت في غير صلاةٍ لم تبطل صلاته، فكذلك في الصّلاة، وقد ثبت أنّ «عائشة رضي الله عنها كانت تعترض بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نائمةً وهو يصلّي». والنّهي للكراهة، ولهذا لا تفسد صلاتها فصلاة من يليها أولى. وهكذا إن كان هناك صفّ تامّ من النّساء، فإنّه لا يمنع اقتداء من خلفهنّ من الرّجال. وذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يكون بين المقتدي والإمام صفّ من النّساء بلا حائلٍ قدر ذراعٍ، وبهذا قال أبو بكرٍ من الحنابلة، والمراد بالصّفّ عند الحنفيّة ما زاد على الثّلاث، وفي روايةٍ المراد بالصّفّ الثّلاث، وعلى هذا قالوا: - 1 - المرأة الواحدة تفسد صلاة ثلاثةٍ، واحدٍ عن يمينها وآخر عن يسارها وآخر خلفها، ولا تفسد أكثر من ذلك. - 2 - والمرأتان تفسدان صلاة أربعةٍ من الرّجال، واحدٍ عن يمينهما، وآخر عن يسارهما، وصلاة اثنين خلفهما. - 3 - وإن كنّ ثلاثاً أفسدن صلاة واحدٍ عن يمينهنّ، وآخر عن يسارهنّ وثلاثةٍ ثلاثةٍ إلى آخر الصّفوف. وهذا جواب ظاهر الرّواية. وفي رواية الثّلاث كالصّفّ، تفسد صلاة كلّ الصّفوف خلفهنّ إلى آخر الصّفوف، لأنّ الثّلاثة جمع كامل. وفي روايةٍ عن أبي يوسف أنّ الثّنتين كالثّلاث. وفي روايةٍ أخرى جعل الثّلاث كالاثنتين. د - العلم بانتقالات الإمام: 24 - يشترط في الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام، بسماعٍ أو رؤيةٍ للإمام أو لبعض المقتدين به، لئلاّ يشتبه على المقتدي حال الإمام فلا يتمكّن من متابعته، فلو جهل المأموم أفعال إمامه الظّاهرة كالرّكوع والسّجود، أو اشتبهت عليه لم تصحّ صلاته، لأنّ الاقتداء متابعة، ومع الجهل أو الاشتباه لا تمكن المتابعة، وهذا الشّرط متّفق عليه عند الفقهاء. زاد الحنفيّة: وكذا علمه بحال إمامه من إقامةٍ أو سفرٍ قبل الفراغ أو بعده، وهذا فيما لو صلّى الرّباعية ركعتين في مصرٍ أو قريةٍ. هذا، وقد تقدّم أنّ الحنابلة لا يجوّزون الاقتداء خارج المسجد بالسّماع وحده. بل يشترطون في إحدى الرّوايتين رؤية المأموم للإمام أو بعض المقتدين به، لقول عائشة لنساءٍ كنّ يصلّين في حجرتها:" لا تصلّين بصلاة الإمام فإنّكنّ دونه في حجابٍ " ولأنّه لا يمكنه المتابعة في الغالب. وأمّا على الرّواية الأخرى فالحنابلة يكتفون بالعلم بانتقالات الإمام بالسّماع أو بالرّؤية. ذ - صحّة صلاة الإمام: 25 - يشترط لصحّة الاقتداء صحّة صلاة الإمام، فلو تبيّن فسادها لا يصحّ الاقتداء، قال الحنفيّة: لو تبيّن فساد صلاة الإمام، فِسْقاً منه، أو نسياناً لمضيّ مدّة المسح، أو لوجود الحدث أو غير ذلك، لم تصحّ صلاة المقتدي لعدم صحّة البناء، وكذلك لو كانت صحيحةً في زعم الإمام فاسدةً في زعم المقتدي لبنائه على الفاسد في زعمه. والمراد بالفسق هنا: الفسق الّذي يخلّ بركنٍ أو شرطٍ في الصّلاة، كأن يصلّي وهو سكران، أو هو محدث متعمّداً. أمّا الفسق في العقيدة، أو بارتكاب المحرّمات، فهي مسألة خلافيّة، وقد شدّد فيها الإمام أحمد، وقال: إنّه إذا كان داعياً إلى بدعته، وعلم بذلك المقتدي، فعليه إعادة الصّلاة، حتّى لو علم بذلك بعد الصّلاة، وهذه الرّواية المعتمدة في المذهب. أمّا إذا كان لا يدعو إلى بدعته، وهو مستور الحال، فالظّاهر أنّه لا إعادة على من اقتدى به، وفي روايةٍ: عليه الإعادة. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة خلف الفاسق مكروهة، ولا إعادة فيها. لحديث: «صلّوا خلف من قال لا إله إلاّ اللّه». ولأنّ ابن عمر كان يصلّي خلف الحجّاج. وأنّ الحسن والحسين كانا يصلّيان خلف مروان ووراء الوليد بن عقبة. ومثله ما ذهب إليه المالكيّة حيث قالوا: لا يصحّ الاقتداء بإمامٍ تبيّن في الصّلاة أو بعدها أنّه كافر، أو امرأة، أو مجنون، أو فاسق (على خلافٍ فيه) أو ظهر أنّه محدث، إن تعمّد الحدث أو علم المؤتمّ بحدثه في الصّلاة أو قبلها، أو اقتدى به بعد العلم ولو ناسياً. وكذا قال الشّافعيّة: لا يصحّ اقتداؤه بمن يعلم بطلان صلاته، كمن علم بكفره أو حدثه أو نجاسة ثوبه، لأنّه ليس في صلاةٍ فكيف يقتدي به، وكذا لا يصحّ الاقتداء بإمامٍ يعتقد المقتدي بطلان صلاته. وصرّح الحنابلة بأنّه لا يصحّ الاقتداء بكافرٍ ولو ببدعةٍ مكفّرةٍ ولو أسرّه وجهل المأموم كفره ثمّ تبيّن له. وكذلك من ظنّ كفره أو حدثه، ولو بان خلاف ذلك فيعيد المأموم، لاعتقاده بطلان صلاته. لكن المالكيّة قالوا: لو علم المقتدي بحدث إمامه بعد الصّلاة فلا بطلان. كما أنّ الحنابلة صرّحوا بأنّه لو صلّى خلف من يعلمه مسلماً، فقال بعد الصّلاة: هو كافر، لم يؤثّر في صلاة المأموم لأنّها كانت محكوماً بصحّتها. وأمّا الإمام فلو أخطأ أو نسي لم يؤاخذ بذلك المأموم، كما في البخاريّ وغيره، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أئمّتكم يصلّون لكم ولهم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم». فجعل خطأ الإمام على نفسه دونهم، وقد صلّى عمر وغيره من الصّحابة رضي الله عنهم وهو جنب ناسياً للجنابة، فأعاد ولم يأمر المأمومين بالإعادة، وهذا مذهب جمهور العلماء، كمالكٍ والشّافعيّ وأحمد في المشهور عنه. وكذلك لو فعل الإمام ما يسوغ عنده، وهو عند المأموم يبطل الصّلاة، مثل أن يفتصد ويصلّي ولا يتوضّأ، أو يمسّ ذكره، أو يترك البسملة، وهو يعتقد أنّ صلاته تصحّ مع ذلك، والمأموم يعتقد أنّها لا تصحّ مع ذلك، فجمهور العلماء على صحّة صلاة المأموم، كما هو مذهب مالكٍ وأحمد في أظهر الرّوايتين، بل في أنصّهما عنه. وهو أحد الوجهين في مذهب الشّافعيّ، اختاره القفّال وغيره. واستدلّ الإمام أحمد لهذا الاتّجاه بأنّ الصّحابة - رضوان الله عليهم - كان يصلّي بعضهم خلف بعضٍ على اختلافهم في الفروع. وأنّ المسائل الخلافيّة لا تخلو إمّا أن يصيب المجتهد فيكون له أجران: أجر اجتهاده وأجر إصابته، أو أن يخطئ فله أجر واحد وهو أجر اجتهاده، ولا إثم عليه في الخطأ.
26 - المقتدي إمّا مدرك، أو مسبوق، أو لاحق، فالمدرك: من صلّى الرّكعات كاملةً مع الإمام، أي أدرك جميع ركعاتها معه، سواء أأدرك معه التّحريمة أو أدركه في جزءٍ من ركوع الرّكعة الأولى إلى أن قعد معه القعدة الأخيرة، وسواء أسلّم معه أم قبله. والمدرك يتابع إمامه في أفعاله وأقواله، إلاّ في حالاتٍ خاصّةٍ تذكر في كيفيّة الاقتداء. 27 - والمسبوق: من سبقه الإمام بكلّ الرّكعات بأن اقتدى بالإمام بعد ركوع الأخيرة، أو ببعض الرّكعات. وقد اختلفوا في حكمه، فقال أبو حنيفة والحنابلة: ما أدركه المسبوق فهو آخر صلاته قولاً وفعلاً، فإن أدركه فيما بعد الرّكعة الأولى كالثّانية أو الثّالثة لم يستفتح، ولم يستعذ، وما يقضيه فهو أوّل صلاته، يستفتح فيه، ويتعوّذ، ويقرأ الفاتحة والسّورة كالمنفرد، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فاقضوا» والمقضيّ هو الفائت، فيكون على صفته، لكن لو أدرك من رباعيّةٍ أو مغربٍ ركعةً، تشهّد عقب قضاء ركعةٍ أخرى عند الحنابلة كما قال به سائر الفقهاء، غير أبي حنيفة، لئلاّ يلزم تغيير هيئة الصّلاة، لأنّه لو تشهّد عقب ركعتين لزم قطع الرّباعيّة على وترٍ، والثّلاثيّة شفعاً، ومراعاة هيئة الصّلاة ممكنة، وقال أبو حنيفة: لو أدركه في ركعة الرّباعيّ يقضي ركعتين بفاتحةٍ وسورةٍ ثمّ يتشهّد، ثمّ يأتي بفاتحةٍ خاصّةٍ، ليكون القضاء بالهيئة الّتي فاتت. وقال الشّافعيّة: ما أدركه المسبوق مع الإمام فهو أوّل صلاته، وما يفعله بعد سلام إمامه آخرها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا» وإتمام الشّيء لا يكون إلاّ بعد أوّله، وعلى ذلك إذا صلّى مع الإمام الرّكعة الثّانية من الصّبح، وقنت الإمام فيها يعيد في الباقي القنوت، ولو أدرك ركعةً من المغرب مع الإمام تشهّد في الثّانية. وذهب المالكيّة، وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة، وهو المعتمد في المذهب، أنّ المسبوق يقضي أوّل صلاته في حقّ القراءة، وآخرها في حقّ التّشهّد، فمدرك ركعةٍ من غير فجرٍ يأتي بركعتين بفاتحةٍ وسورةٍ وتشهّدٍ بينهما، وبرابعة الرّباعيّ بفاتحةٍ فقط، ولا يعقد قبلهما، فهو قاضٍ في حقّ القول عملاً برواية: «وما فاتكم فاقضوا» لكنّه بانٍ على صلاته في حقّ الفعل عملاً برواية: «وما فاتكم فأتمّوا» وذلك تطبيقاً لقاعدة الأصوليّين: (إذا أمكن الجمع بين الدّليلين جُمِع) فحملنا رواية الإتمام على الأفعال، ورواية القضاء على الأقوال. 28 - والاّحق: هو من فاتته الرّكعات كلّها أو بعضها بعد اقتدائه بعذرٍ، كغفلةٍ وزحمةٍ، وسبق حدثٍ ونحوها، أو بغير عذرٍ كأن سبق إمامه في ركوعٍ أو سجودٍ، كما عرّفه الحنفيّة، وهو المتخلّف عن الإمام بركنٍ أو أكثر، كما عبّر عنه غير الحنفيّة. وحكم الاّحق عند الحنفيّة كمؤتمٍّ، لا يأتي بقراءةٍ ولا سجود سهوٍ، ولا يتغيّر فرضه بنيّة إقامةٍ، ويبدأ بقضاء ما فاته بعذرٍ، ثمّ يتابع الإمام إن لم يكن قد فرغ، عكس المسبوق. وقال الجمهور: (المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة) إن تخلّف عن الإمام بركعةٍ فأكثر بعذرٍ، من نومٍ أو غفلةٍ، تابع إمامه فيما بقي من صلاته، ويقضي ما سبقه الإمام به بعد سلام الإمام كالمسبوق، وإن تخلّف بركنين بغير عذرٍ بطلت صلاته عندهم. وكذلك لو تخلّف بركنٍ واحدٍ عمداً عند المالكيّة، وهو رواية عند الشّافعيّة، ولا تبطل في الأصحّ عندهم. وإن تخلّف بركنٍ أو ركنين لعذرٍ فإنّ المأموم يفعل ما سبقه به إمامه ويدركه إن أمكن، فإن أدركه فلا شيء عليه، وإلاّ تبطل هذه الرّكعة فيتداركها بعد سلام الإمام. وهذا في الجملة، وفي المسألة تفصيل، وفي بعض الفروع خلاف يرجع إليه في مصطلح (لاحق).
أوّلاً - في أفعال الصّلاة: 29 - الاقتداء في الصّلاة هو متابعة الإمام، والمتابعة واجبة في الفرائض والواجبات من غير تأخير واجبٍ، ما لم يعارضها واجب آخر، فإن عارضها واجب آخر فلا ينبغي أن يفوته، بل يأتي به ثمّ يتابعه، لأنّ الإتيان به لا يفوّت المتابعة بالكلّيّة، وإنّما يؤخّرها، وتأخير أحد الواجبين مع الإتيان بهما أولى من ترك أحدهما بالكلّيّة، بخلاف ما إذا كان ما يعارض المتابعة سنّة، فإنّه يترك السّنّة ويتابع الإمام بلا تأخيرٍ، لأنّ ترك السّنّة أولى من تأخير الواجب. وعلى ذلك فلو رفع الإمام رأسه من الرّكوع أو السّجود قبل أن يتمّ المأموم التّسبيحات الثّلاث وجب متابعته، وكذا عكسه. بخلاف سلام الإمام أو قيامه لثالثةٍ قبل إتمام المأموم التّشهّد، فإنّه لا يتابعه، بل يتمّ التّشهّد لوجوبه. هذا، ومقتضى الاقتداء والمتابعة ألاّ يحصل فعل من أفعال المقتدي قبل فعل الإمام، وقد فصّل الفقهاء بين الأفعال الّتي يسبّب فيها سبق المأموم فعل إمامه أو مقارنته له بطلان الاقتداء، وبين غيرها من الأفعال، فقالوا: إن تقدّم المأموم إمامه في تكبيرة الإحرام لم يصحّ الاقتداء أصلاً، لعدم صحّة البناء، وهذا باتّفاق المذاهب. وجمهور الفقهاء: (المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو رواية عن أبي يوسف من الحنفيّة) على أنّ مقارنة المأموم للإمام في تكبيرة الإحرام تضرّ بالاقتداء وتبطل صلاة المقتدي، عمداً كان أو سهواً، لحديث: «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا» لكن المالكيّة قالوا: إن سبقه الإمام ولو بحرفٍ صحّت، إن ختم المقتدي معه أو بعده، لا قبله. واشترط الشّافعيّة، وهو المفهوم من كلام الحنابلة، تأخّر جميع تكبيرة المقتدي عن تكبيرة الإمام. ولا تضرّ مقارنة تكبيرة المقتدي لتكبير الإمام عند أبي حنيفة، حتّى نقل عنه القول بأنّ المقارنة هي السّنّة، قال في البدائع: ومنها (أي من سنن الجماعة) أن يكبّر المقتدي مقارناً لتكبير الإمام فهو أفضل باتّفاق الرّوايات عن أبي حنيفة.. لأنّ الاقتداء مشاركة، وحقيقة المشاركة المقارنة، إذ بها تتحقّق المشاركة في جميع أجزاء العبادة. واتّفق الفقهاء على أنّ المقتدي يتابع الإمام في السّلام، بأن يسلّم بعده، وصرّح الحنفيّة: أنّه لو سلّم الإمام قبل أن يفرغ المقتدي من الدّعاء الّذي يكون بعد التّشهّد، أو قبل أن يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّه يتابع الإمام في التّسليم. أمّا عند الجمهور فلو سلّم الإمام قبل أن يصلّي المأموم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه يصلّي عليه، ثمّ يسلّم من صلاته، لأنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من أركان الصّلاة. ولو سلّم قبل الإمام سهواً فإنّه يعيد، ويسلّم بعده، ولا شيء عليه، أمّا إن سلّم قبل الإمام عمداً فإنّه تبطل صلاته عند الجمهور، إلاّ أن ينوي المفارقة عند بعض الشّافعيّة. أمّا مقارنة المقتدي للإمام في السّلام فلا تضرّ عند جمهور الفقهاء، إلاّ أنّها مكروهة عند الشّافعيّة والحنابلة، أمّا المالكيّة فقالوا: مساواته للإمام تبطل الصّلاة. ولا تضرّ مقارنة المأموم للإمام في سائر الأفعال، كالرّكوع والسّجود مع الكراهة أو بدونها على خلافٍ بين الفقهاء، فإن تقدّمه في ركوعٍ أو سجودٍ ينبغي البقاء فيهما حتّى يدركه الإمام، ولو رفع المقتدي رأسه من الرّكوع أو السّجود قبل الإمام ينبغي أن يعود ولا يعتبر ذلك ركوعين أو سجودين اتّفاقاً، وفي المسألة تفصيل ينظر في (صلاة). ثانياً - الاقتداء في أقوال الصّلاة: 30 - لا يشترط لصحّة الاقتداء متابعة الإمام في سائر أقوال الصّلاة غير تكبيرة الإحرام والسّلام، كالتّشهّد والقراءة والتّسبيح، فيجوز فيها التّقدّم والتّأخّر والموافقة.
أ - اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم: 31 - يجوز اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم عند جمهور الفقهاء. (المالكيّة والحنابلة وأبي حنيفة وأبي يوسف)، لما ورد في حديث «عمرو بن العاص أنّه بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أميراً على سريّةٍ، فأجنب، وصلّى بأصحابه بالتّيمّم لخوف البرد، وعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يأمرهم بالإعادة». واستدلّ الحنفيّة للجواز كذلك على أصلهم بأنّ التّيمّم يرفع الحدث مطلقاً من كلّ وجهٍ، ما بقي شرطه، وهو العجز عن استعمال الماء، ولهذا تجوز الفرائض المتعدّدة بتيمّمٍ واحدٍ عندهم. وكره المالكيّة اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم، كما أنّ الحنابلة صرّحوا بأنّ إمامة المتوضّئ أولى من إمامة المتيمّم، لأنّ التّيمّم لا يرفع الحدث، بل يستباح به الصّلاة للضّرورة. وقال الشّافعيّة: لا يجوز الاقتداء بمن تلزمه الإعادة كمتيمّمٍ بمتيمّمٍ، ولو كان المقتدي مثله، أمّا المتيمّم الّذي لا إعادة عليه فيجوز اقتداء المتوضّئ به، لأنّه قد أتى عن طهارته ببدلٍ مغنٍ عن الإعادة. وقال محمّد بن الحسن من الحنفيّة: لا يصحّ اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم مطلقاً في غير صلاة الجنازة، للزوم بناء القويّ على الضّعيف.
32 - اتّفق الفقهاء على جواز اقتداء غاسلٍ بماسحٍ على خفٍّ أو جبيرةٍ، لأنّ الخفّ مانع سراية الحدث إلى القدم، وما حلّ بالخفّ يرفعه المسح، فهو باقٍ على كونه غاسلاً، كما علّله الحنفيّة، ولأنّ صلاته مغنية عن الإعادة لارتفاع حدثه، لأنّ المسح يرفع الحدث كما وجّهه الآخرون.
33 - جمهور الفقهاء (الحنفيّة والمالكيّة وهو المختار عند الحنابلة) على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفّل، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به، فلا تختلفوا عليه» ولقوله عليه السلام: «الإمام ضامن» ومقتضى الحديثين ألاّ يكون الإمام أضعف حالاً من المقتدي، ولأنّ صلاة المأموم لا تؤدّى بنيّة الإمام، فأشبهت صلاة الجمعة خلف من يصلّي الظّهر. وقال الشّافعيّة، وهو الرّواية الثّانية عند الحنابلة: يصحّ اقتداء المفترض بالمتنفّل بشرط توافق نظم صلاتيهما، لما ورد في الصّحيحين: «أنّ معاذاً كان يصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة، ثمّ يرجع إلى قومه فيصلّي بهم تلك الصّلاة». فإن اختلف فعلهما كمكتوبةٍ وكسوفٍ أو جنازةٍ، لم يصحّ الاقتداء في ذلك على الصّحيح لمخالفته النّظم وتعذّر المتابعة. 34 - ويتفرّع على هذه المسألة اقتداء البالغ بالصّبيّ في الفرض، فإنّه لا يجوز عند جمهور الفقهاء (الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة) لقول الشّعبيّ: لا يؤمّ الغلام حتّى يحتلم. ولأنّه لا يؤمن من الصّبيّ الإخلال بشرطٍ من شرائط الصّلاة. وقال الشّافعيّة: يصحّ اقتداء البالغ الحرّ بالصّبيّ المميّز، ولو كانت الصّلاة فرضاً، للاعتداد بصلاته، لأنّ«عمرو بن سلمة كان يؤمّ قومه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستّ أو سبع سنين». لكنّهم صرّحوا بكراهة الاقتداء بالصّبيّ المميّز. هذا في صلاة الفريضة، أمّا في النّافلة فجاز اقتداء البالغ بالصّبيّ عند بعض الحنفيّة، وهو المشهور عند المالكيّة، ورواية عند الحنابلة. وفي المختار عند الحنفيّة، ورواية عند المالكيّة والحنابلة: لا يجوز لأنّ نفل الصّغير دون نفل البالغ، حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد، ولا يبنى القويّ على الضّعيف، كما علّله الحنفيّة..
35 - جمهور الفقهاء (الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة) على أنّه لا يجوز اقتداء مفترضٍ بمن يصلّي فرضاً آخر غير فرض المأموم، فلا يصحّ اقتداء من يصلّي ظهراً خلف من يصلّي عصراً أو غيره، ولا عكسه، ولا اقتداء من يصلّي أداءً بمن يصلّي قضاءً، لأنّ الاقتداء بناء تحريمة المقتدي على تحريمة الإمام، وهذا يقتضي اتّحاد صلاتيهما، كما سبق في شروط الاقتداء. ويجوز ذلك عند الشّافعيّة إذا توافق نظم صلاتيهما في الأفعال الظّاهرة، فيصحّ اقتداء من يصلّي فرضاً من الأوقات الخمسة بمن يصلّي فرضاً آخر منهما أداءً وقضاءً، مع تفصيلٍ ذكر في موضعه.
36 - يجوز اقتداء المقيم بالمسافر في الوقت وخارج الوقت باتّفاق الفقهاء، فإذا أتمّ الإمام المسافر صلاته يقول للمصلّين خلفه: أتمّوا صلاتكم فإنّي مسافر. فيقوم المقتدي المقيم ليكمل صلاته. ويعتبر في هذه الحالة كالمسبوق عند أكثر الفقهاء. كذلك يجوز اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت بلا خلافٍ، وحينئذٍ يجب عليه إتمام صلاته أربعاً متابعةً للإمام. أمّا اقتداء المسافر بالمقيم خارج الوقت فلا يجوز في صلاةٍ رباعيّةٍ عند الحنفيّة، لأنّ المسافر بعد فوات الوقت تقرّر أنّ فرضه ركعتان فيكون اقتداء مفترضٍ بمتنفّلٍ في حقّ قعدةٍ أو قراءةٍ باقتدائه في شفعٍ أوّلٍ أو ثانٍ.
37 - يرى جمهور الفقهاء: (الحنفيّة والحنابلة، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة) أنّه لا يجوز اقتداء السّليم بالمعذور، كمن به سلس البول، واستطلاق البطن، وانفلات الرّيح، وكذا الجرح السّائل، والرّعاف، والمستحاضة، لأنّ أصحاب الأعذار يصلّون مع الحدث حقيقةً، لكن جعل الحدث الموجود في حقّهم كالمعدوم، للحاجة إلى الأداء فلا يتعدّاهم، لأنّ الضّرورة تقدّر بقدرها، ولأنّ الصّحيح أقوى حالاً من المعذور، ولا يجوز بناء القويّ على الضّعيف، ولأنّ الإمام ضامن، بمعنى أنّه تضمن صلاته صلاة المقتدي، والشّيء لا يتضمّن ما هو فوقه. وقال الشّافعيّة في الأصحّ: يصحّ اقتداء السّليم بصاحب السّلس، والطّاهرة بالمستحاضة غير المتحيّرة، لصحّة صلاتهم من غير إعادةٍ. وجواز اقتداء السّليم بالمعذور هو قول المالكيّة في المشهور، لأنّه إذا عفي عن الأعذار في حقّ صاحبها عفي عنها في حقّ غيره. لكنّهم صرّحوا بكراهة إمامة أصحاب الأعذار للأصحّاء. وقد نقل في التّاج والإكليل عن المالكيّة في جواز أو عدم جواز اقتداء السّليم بالمعذور قولين. واستدلّ للجواز بأنّ عمر كان إماماً وأخبر أنّه يجد ذلك (أي سلس المذي) ولا ينصرف ويجوز اقتداء صاحب العذر بمثله مطلقاً، أي ولو اختلف العذر، أو إن اتّحد عذرهما على تفصيلٍ يذكر في مصطلح (عذر).
38 - صرّح جمهور الفقهاء (الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة) بعدم صحّة اقتداء المكتسي (أي مستور العورة) بالعاري، لأنّ المقتدي أقوى حالاً من الإمام، فيلزم اقتداء القويّ بالضّعيف. ولأنّه تارك لشرطٍ يقدر عليه المأموم، فأشبه اقتداء المعافى بمن به سلس البول. حتّى إنّ المالكيّة قالوا: إن وجدوا ثوباً صلّوا به أفذاذاً لا يؤمّهم به أحد. وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى جواز اقتداء المستور بالعاري، بناءً على أصلهم في جواز اقتداء السّليم بالمعذور. أمّا اقتداء العاري بالعاري فيجوز عند عامّة الفقهاء، إلاّ أنّ المالكيّة قيّدوا الجواز بما إن اجتمعوا بظلامٍ، وإلاّ تفرّقوا وصلّوا أفذاذاً متباعدين.
39 - لا يجوز اقتداء القارئ بالأمّيّ عند جمهور الفقهاء (الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، والجديد من مذهب الشّافعيّة) لأنّ الإمام ضامن ويتحمّل القراءة عن المأموم، ولا يمكن ذلك في الأمّيّ، لعدم قدرته على القراءة، ولأنّهما تاركان لشرطٍ يقدران عليه بتقديم القارئ، والمراد بالأمّيّ هنا عند الفقهاء: من لا يحسن القراءة الّتي تتوقّف عليها الصّلاة. ويجوز اقتداء القارئ بالأمّيّ في القديم من مذهب الشّافعيّة، في الصّلاة السّرّيّة دون الجهريّة، وذهب المزنيّ إلى صحّة الاقتداء به مطلقاً. وجمهور العلماء على بطلان صلاة القارئ إذا اقتدى بالأمّيّ، لعدم صحّة بناء صلاته على صلاة الأمّيّ، كذلك تبطل صلاة الأمّيّ الّذي أمّ القارئ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الجديد لفقد شرطٍ يقدران عليه. أمّا الحنابلة فقد فصّلوا في الموضوع فقالوا: إن أمّ أمّيّ أمّيّاً وقارئاً، فإن كانا عن يمينه، أو كان الأمّيّ عن يمينه والقارئ عن يساره صحّت صلاة الإمام والأمّيّ المأموم، وبطلت صلاة القارئ لاقتدائه بأمّيٍّ. وإن كانا خلفه، أو القارئ وحده عن يمينه، والأمّيّ عن يساره فسدت صلاة القارئ لاقتدائه بالأمّيّ، وتبطل صلاة الأمّيّ المأموم لكونه فذّاً خلف الإمام أو عن يساره، وذلك مبطل للصّلاة عندهم. هذا، ويجوز اقتداء الأمّيّ بمثله بلا خلافٍ عند الفقهاء.
40 - لا يجوز اقتداء من يقدر على ركنٍ، كالرّكوع أو السّجود أو القيام، بمن لا يقدر عليه عند المالكيّة والحنابلة، وهو قول محمّدٍ من الحنفيّة، لأنّ الإمام عجز عن ركنٍ من أركان الصّلاة فلم يصحّ الاقتداء به كالعاجز عن القراءة إلاّ بمثله، ولعدم جواز اقتداء القويّ بالضّعيف كما مرّ، إلاّ أنّ الحنابلة استثنوا إمام الحيّ المرجوّ زوال علّته، وفي هذه الحالة يصحّ أن يصلّي المقتدرون وراءه جلوساً أو قياماً عندهم. ويجوز اقتداء قائمٍ بقاعدٍ يركع ويسجد عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وجاز ذلك عند الشّافعيّة ولو لم يكن القاعد قادراً على الرّكوع أو السّجود، لحديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «صلّى آخر صلاته قاعداً والقوم خلفه قيام». واختلفوا في اقتداء المستوي خلف الأحدب، فقال الحنفيّة والشّافعيّة بجوازه، وقيّده بعض الحنفيّة بألاّ تبلغ حدبته حدّ الرّكوع، ويميّز قيامه عن ركوعه، وقال المالكيّة بجوازه مع الكراهة، ومنعه الحنابلة مطلقاً. أمّا إذا كان الإمام يصلّي بالإيماء فلا يجوز اقتداء القائم أو الرّاكع أو السّاجد خلفه عند الجمهور (الحنفيّة عدا زفر، والمالكيّة والحنابلة) خلافاً للشّافعيّة الّذين قاسوا المضطجع والمستلقي على القاعد. ويجوز اقتداء المومئ بمثله عند الجمهور خلافاً للمالكيّة في المشهور، لأنّ الإيماء لا ينضبط، فقد يكون إيماء المأموم أخفض من إيماء الإمام، وقد يسبقه المأموم في الإيماء، وهذا يضرّ.
41 - الفاسق: من فعل كبيرةً، أو داوم على صغيرةٍ. وقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بجواز الاقتداء بالفاسق مع الكراهة، أمّا الجواز فلما ورد في الحديث: «صلّوا خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ»، ولما رواه الشّيخان أنّ ابن عمر " كان يصلّي خلف الحجّاج على ظلمه. وأمّا الكراهة فلعدم الوثوق به في المحافظة على الشّروط. وقال الحنابلة - وهو رواية عند المالكيّة -: لا تصحّ إمامة فاسقٍ بفعلٍ، كزانٍ وسارقٍ وشارب خمرٍ ونمّامٍ ونحوه، أو اعتقادٍ، كخارجيٍّ أو رافضيٍّ ولو كان مستوراً. لقوله تعالى: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}، ولما روي عن جابرٍ مرفوعاً: «لا تؤمّن امرأة رجلاً، ولا أعرابيّ مهاجراً، ولا فاجر مؤمناً إلاّ أن يقهره بسلطانٍ يخاف سوطه وسيفه». وفصّل المالكيّة في الرّواية الأخرى المعتمدة بين الفاسق بجارحةٍ كزانٍ وشارب خمرٍ، وبين من يتعلّق فسقه بالصّلاة، كأن يقصد بتقدّمه الكبر، أو يخلّ بركنٍ أو شرطٍ، أو سنّةٍ عمداً، فقالوا بجواز الاقتداء بالأوّل دون الثّاني. وهذا كلّه في الصّلوات الخمس، أمّا في الجمع والأعياد فيجوز الاقتداء بالفاسق اتّفاقاً، لأنّهما يختصّان بإمامٍ واحدٍ، فالمنع منهما خلفه يؤدّي إلى تفويتهما دون سائر الصّلوات.
42 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة الاقتداء بالأعمى والأصمّ، لأنّ العمى والصّمم لا يخلّان بشيءٍ من أفعال الصّلاة، ولا بشروطها. لكن الحنفيّة والحنابلة صرّحوا بكراهة إمامة الأعمى، كما صرّح المالكيّة بأفضليّة إمامة البصير المساوي للأعمى في الفضل، لأنّه أشدّ تحفّظاً من النّجاسات. وقال الشّافعيّة: الأعمى والبصير سواء لتعارض فضليهما، لأنّ الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع، والبصير ينظر الخبث فهو أقدر على تجنّبه، وهذا إذا كان الأعمى لا يتبذّل، أمّا إذا تبذّل أي ترك الصّيانة عن المستقذرات، كأن لبس ثياب البذلة، كان البصير أولى منه. أمّا الأخرس فلا يجوز الاقتداء به، لأنّه يترك أركان الصّلاة من التّحريمة والقراءة. حتّى إنّ الشّافعيّة والحنابلة صرّحوا بعدم جواز الاقتداء بالأخرس، ولو كان المقتدي مثله، وصرّح الحنفيّة أنّ الأخرس أسوأ حالاً من الأمّيّ، لقدرة الأمّيّ على التّحريمة دون الأخرس، فلا يجوز اقتداء الأمّيّ بالأخرس، ويجوز العكس.
43 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة الاقتداء بإمامٍ يخالف المقتدي في الفروع، إذا كان الإمام يتحامى مواضع الخلاف، بأن يتوضّأ من الخارج النّجس من غير السّبيلين كالفصد مثلاً، ولا ينحرف عن القبلة انحرافاً فاحشاً، ويراعي الدّلك والموالاة في الوضوء، والطّمأنينة في الصّلاة. وكذلك يصحّ الاقتداء بإمامٍ مخالفٍ في المذهب إذا كان لا يعلم منه الإتيان بما يفسد الصّلاة عند المقتدي بيقينٍ، لأنّ الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم من المسلمين لم يزل بعضهم يقتدي ببعضٍ مع اختلافهم في الفروع، ولما فيه من وحدة الصّفّ وقوّة المسلمين. أمّا إذا علم المقتدي أنّ الإمام أتى بمانعٍ لصحّة الصّلاة في مذهب المأموم، وليس مانعاً في مذهبه، كترك الدّلك والموالاة في الوضوء، أو ترك شرطاً في الصّلاة عند المأموم، فقد صرّح المالكيّة والحنابلة - وهو رواية عند الشّافعيّة - بصحّة الاقتداء، لأنّ المعتبر في شروط الصّلاة مذهب الإمام لا المأموم، ما لم يكن المتروك ركناً داخلاً في الصّلاة عند المالكيّة، كترك الرّفع من الرّكوع. وفي الأصحّ عند الشّافعيّة لا يصحّ الاقتداء اعتباراً بنيّة المقتدي، لأنّه يعتقد فساد صلاة إمامه، فلا يمكن البناء عليه. وقال الحنفيّة: إن تيقّن المقتدي ترك الإمام مراعاة الفروض عند المقتدي لم يصحّ الاقتداء، وإن علم تركه للواجبات فقط يكره، أمّا إن علم منه ترك السّنن فينبغي أن يقتدي به، لأنّ الجماعة واجبة، فتقدّم على ترك كراهة التّنزيه، وهذا بناء على أنّ العبرة لرأي المقتدي - وهو الأصحّ - وقيل: لرأي الإمام، وعليه جماعة. قال في النّهاية: وهو الأقيس، وعليه فيصحّ الاقتداء، وإن كان الإمام لا يحتاط.
44 - الاقتداء في غير الصّلاة - بمعنى التّأسّي والاتّباع - يختلف حكمه باختلاف المقتدى به، فالاقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمور الدّين وما يتعلّق بالشّريعة واجب أو مندوب (بحسب حكم ذلك الفعل)، والاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم الجبلّيّة حكمه الإباحة، والاقتداء بالمجتهد فيما اجتهد فيه من المسائل الفقهيّة مطلوب لمن ليس له أهليّة الاجتهاد عند الأصوليّين. وتفصيل هذه المسائل في الملحق الأصوليّ، وانظر مصطلحي (اتّباع، وتأسّي).
|